فيما يتحسس الناس بطونهم وجيوبهم مخافة الموت, يتسرح المتهمون بقتل وتعذيب التونسيين ويتسرب السياح الإسرائيليون بجوازات سفر  ......


شبكة المدى/ كتابات - بقلم رشيدة خلفت:

في غياب وضوح الرؤية وفي ظل الفوضى وتحت ضربات الداخل والخارج تصبح السياسة أشبه ما تكون بمغامرة "مُلاعبة الثعابين" توقيا من لدغاتها وتجنبا لإعدامها وأملا في ترويضها أولا ثم تعويمها في سوائل التخدير ثانيا.. بعض المشاهدين يتسلون بالمشهد فيبدون إعجابهم واندهاشهم حينا، ويسخرون من مُلاعب الثعابين حينا آخر فينعتونه ب"الدرويش"... مُرَوّض الثعابين يشعر أنه صاحب رسالة وأنه مسؤول عن أرواح حشود من الأتباع والمتابعين يخشى عليهم اللدغ والسموم.
الحماسة ليست دائما علامة ثورية واللطافة ليست دائما دليل حكمة والسياسي الماهر هو من يكسب معارك دون خوضها ومن يتلقف لحظات صناعة الإنتصار وهو من لا تقوده الحميّات والهتافات وزغاريد المتسللين إلى عرس لا يعلمون أصحابه.
الذين تحشدوا ذات ليلة من رمضان الصائفة الفارطة قادمين من مختلف جهات البلاد مُجندين للدفاع عن "الشرعية" وعازمين على مواجهة كل المشاريع الإنقلابية، فاجأتهم كلمة الشيخ راشد الغنوشي ليلتها باعتدالها وتوازنها ودعوتها للتوافق والحوار... ثم كانت المفاجأة أو الصدمة الأولى حين تناهى إلى التونسيين خبر زيارة "القائد" لخصمه التقليدي الباجي قايد السبسي في مشفاه بباريس.

الزيارة تلك أحدثت تحولا سحريا في الساحة السياسية وقد كانت على مرجل يوشك أن يهز الجميع إلى "الهاوية" بفعل التحركات الإحتجاجية والتحريضية ضد حركة النهضة والإسلاميين عموما..

بدأت البلاد تشهد حالة تبريد حقيقي في الخطاب وفي الشعارات وفي المطالب أيضا وبدأ الإعلام في الغالب يتجه نحو تقديم صورة جديدة لتركيبة الساحة السياسية تتكشف عن "زعيمين / حكيمين" لأكبر حزبين يمكن أن يُسهما في إشاعة "الأمل" السياسي وتحقيق السلم المدني.

بدأ الحديث في أكثر من مكان عن "تسامح" الشيخ راشد الغنوشي وحكمته رغم غضب الكثير من القواعد التي لا تمتلك تفاصيل ما يُدار وما يُدبر في الخفاء.
ورغم تخوف حليفَيْ الحُكم من وجود ترتيبات خفية لتحالفات جديدة على حساب التحالفات القديمة التي أنتجت حكومة الترويكا... لقاء "الشيخين" في باريس ووساطة الرئيس الجزائري بوتفليقة أنتجا وضعا جديدا وأفرزا استحقاقات متسارعة: حل اعصام الرحيل/ تشكل رباعي راع للحوار/ قبول الأطراف المتصارعة بالجلوس إلى مائدة الحوار / تعهد حكومة علي لعريض بالإستقالة/ تعاقب اللقاءات مع السفراء الأجانب/ خفوت أصوات الوعيد ضد الإسلاميين.

ثم كانت "الخاتمة" بخروج النهضة من الحكومة رغم تأكيد زعيمها على كونها لم تخرج من الحكم.. ورغم أن خصومها حاولوا تصريف خروجها على كونه انتصارا لهم فإنهم كانوا يشعرون بأنهم أخطأوا حين ألحوا على مطالبتها بالخروج إذ منحوها فرصة لترك مقود السير في المسافات الوعرة وإذ منحوها من حيث لا يعلمون شرف التنازل من أجل المصلحة الوطنية وإذ قدّموها من حيث لم يشتهوا دليلا على أنها حركة مدنية سلمية ديمقراطية وتوافقية وليست حركة عنف أو استبداد أو نزوع تسلطي... لقد تتالت فعلا شهادات الثناء من دوائر بعيدة وقريبة.

لقد استطاع الشيخ راشد الغنوشي تغطيس الجميع في الحوض العميق ليس لهم من خيار إلا أن يتطهروا جميعا أو أن يُغرق بعضهم بعضا... كما أفلح في إنقاذ "ذُرّيته" مما كان يُحاك لها على إيقاع ضربات العسكر في مصر ضد الإسلاميين في ساحة رابعة العدوية وفي غيرها من ساحات وشوارع مصر المنتفضة... الذين باركوا الإنقلاب أو صمتوا قُبالته كانوا يُبَيّتون سوء نوايا ضد شركائهم في الوطن ممن تقدموا لتجريب الحكم وقد أنتخبهم الناس ولم ينتزعوا السلطة انتزاعا.

الحراك السياسي بعد 14 جانفي 2011 والحراك الإيديولوجي ومشاهد الصراع والعنف ومنسوب التحريض والحقد كشفت عن حقيقة كنتُ أشرت إليها في نص بجريدة الموقف يوم 6 جانفي 2005 وهي أن الإسلاميين إنما تلقوا الضربات القاصمة على يد خصم إيديولوجي تسلل إلى مفاصل الدولة واشتغل في مقاولات التجريف والإستئصال... لقد تأكد فعلا بأن ذاك الطرف المهووس بالعداء العقدي إنما هو المُعيق الأكبر لأي تواجد للإسلام السياسي وهو المستعد للتحالف مع كل الأطراف حتى مع رموز الإستبداد أو مع الدوائر الإستعمارية والمال الفاسد لكسب معركته العقدية تلك.

الإسلاميون الذين جاءت بهم صناديق الإقتراع كانوا يعلمون أنهم لا يمتلكون تجربة ولا قدرا كافيا من الكفاءة لإدارة شؤون دولة في ظرف استثنائي وكانوا يعلمون أيضا بأنه ليس من "السياسة" تسليمُ الصناديق للمهزومين انتخابيا بل وكانوا متأكدين من أن أي حكومة سِواهم تأتي بها الصناديق ستشتغل في محاربتهم قبل الإشتغال على التنمية والحرية والعدالة.

الإسلاميون الذين جاءت بهم الصناديق وتقدموا للحكم مطمئنين إلى كونهم أصحاب "شرعية" فاجأتهم عواصف الإضطرابات والإعتصامات والمطلبيات ثم أربكتهم عمليتان إجراميتان لم يقدروا لا على كشف المتورطين فيها ولا على إثبات عدم تقصيرهم في محاولات منعها..

النهضة فاجأتها الضربات من كل جهة ومنها ما هو من الجهات المأمونة.. فاجأتها "ثورة" مصنعة على عَجل يخوضها سياسيون وإعلاميون ومثقفون وجامعيون ونقابيون وأمنيون وفنانون والطالعون من السجون والمواخير وخرائب المدن.
كان لابد من طرح أسئلة عن معنى وأهداف ومسارات وقيم وأصحاب "الثورة"؟ وعما يمكن أن تنتهي إليه البلاد في ظل عمليات "تخليط" المشهد وتوليد الفوضى ومراكمة الجرائم؟

الحضارات المهزومة تهزم المعاني والشعارات المنتصرة... شعارا الحرية والكرامة لم يصمدا أمام حملات التخويف من فقدان "مائدة الطعام" أو قفة الزوالي كما يقول بن بلدتي حمة الهمامي أو مرتبات الموظفين ..
والناس يتحسسون بطونهم وجيوبهم مخافة أن يموتوا من إملاق يتسرح المتهمون بقتل وتعذيب التونسيين ويتسرب السياح الإسرائيليون بجوازات سفر كيانهم وتتسلل الأمم المتحدة إلى سيادتنا عبر "مؤتمر أصدقاء تونس لتشجيع الإستثمار" ثم ينهار حوالي نصف نواب التأسيسي بسبب عدم القدرة على تمرير قانون العزل السياسي.
 
Top