شبكة المدى/ اليمن.. قِصّة صراع.. وغِصّة عيش:
لم يعلم اليمنيون ممن هتفوا "ثورتنا سلمية، من صنعاء الحرية" في السادس والعشرين من يناير كانون الثاني عام ٢٠١١ من أمام جامعة صنعاء- لم يعلموا ما سيؤول إليه حالهم اليوم بعد سنوات من النزاع.
من بين هؤلاء اليمنيين كانت الشابة غيداء ناجي التي كانت تبلغ من العمر آنذاك سبعة عشر عاماً، وكانت تعطي دروساً باللغة الإنجليزية إلى جانب دراستها في المرحلة الثانوية في محافظة صنعاء.
شاركت غيداء في الاحتجاجات الشعبية على الرغم من مخاوف عائلتها على سلامتها، إلا أن حماسها وأملها في التغيير دفعا بها إلى أن تضع مصلحتها جانباً لتشارك في الاحتجاجات التي كانت مدفوعة بحماس متأثرٍ بنجاح الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر والتي أطاحت بالأنظمة الحاكمة لعشرات السنين في تلك الفترة.
استمرت الاحتجاجات لعدة أشهر، وشارك فيها عشرات الآلاف من اليمنيين الذين ملأهم الأمل في الحصول على دولة حرة وديمقراطية بينما يطالبون بإسقاط نظام الرئيس علي عبدالله صالح الذي يحكم البلاد منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
وخلال هذه الفترة، وقع هجوم على مسجد القصر الرئاسي في صنعاء في الثالث من يونيو حزيران استهدف عدداً من المسؤولين البارزين، كان من بينهم الرئيس صالح الذي أصيب بجروح وحروق خطيرة، ووُصف الهجوم بأنه محاولة اغتيال، ما دفعه للمغادرة إلى السعودية لتلقي العلاج.
ومع رحيل صالح، شعرت غيداء "بالانتصار" حتى وإن كان بشكل مؤقت. لكنها أيقنت في ذات الوقت أن صالح أنشأ بلداً "لا يستطيع أن يتلقى العلاج فيه ولا يضمن الحصول على العلاج المناسب في مستشفياته" في علامة واضحة على الوضع السيء الذي كان اليمن يشهده آنذاك.
بالتزامن مع ذلك، كانت العاصمة صنعاء تشهد اشتباكات بين قوات الجيش وقوات أخرى تابعة للزعيم القبلي صادق الأحمر زعيم قبيلة حاشد.
لم تكن غيداء وعائلتها في اليمن في تلك الفترة، إذ اضطر والدها إلى مغادرة البلاد لخطورة الوضع فيها بناء على طلب من الجهة الدولية التي يعمل بها.
لكنها عادت قبيل فترة الانتخابات وذلك لتقديم امتحاناتها الثانوية العامة. وحينما أرادت غيداء وصف تلك الفترة، قالت إنها رأت الشعب اليمني للمرة الأولى يقف صفاً واحداً من الشمال إلى الجنوب من أجل البلاد، دون مناوشات، ما رفع من إيمانهم بهدف احتجاجاتهم.
التطلعات إلى يمن جديد ارتفعت بحلول الانتخابات الرئاسية التي لم تشهد إلا مرشحاً واحداً، وهو عبد ربه منصور هادي، النائب السابق للرئيس المنتهية ولايته علي عبدالله صالح.
بالنسبة لغيداء، كانت الانتخابات التي جرت يوم الحادي والعشرين من فبراير شباط 2012 مجرد "استفتاء" ليس إلا، وذلك لوجود مرشح واحد. ولكن حالها كما هو حال الكثير من اليمنيين، الذين لم يملكوا خياراً آخر سوى المشاركة والتصويت، تفادياً لعودة علي عبدالله صالح للسلطة وتشبثه بها بشكل أكبر.
نجح عبد ربه منصور هادي في الانتخابات وأعلن علي عبدالله صالح تنحيه رسمياً عن السلطة.
كانت غيداء في طريقها إلى المنزل في ذلك اليوم، "خلال ركوبي سيارة الأجرة، كنت في انتظار أن أرى مشاهد الفوضى في الشوارع، إلا أن الوضع كان مستقراً، ما جعلني أدرك أن التزام المواطنين وحب وطنهم هو ما يحفظ استقرار البلاد وليست الحكومة"، تقول غيداء.
"شعرنا في البداية بخيبة الأمل، ولكن ذلك لم يطل، إذ بدأنا نعتقد أن الحوثيين ربما يكونوا قادرين على إحداث التغيير الذي كنا نطالب به وخرجنا من أجله في الثورة"، تقول غيداء.
"أتذكر جيداً تفاصيل الفترة الأولى بعد سيطرة الحوثيين على الحكم. إذ بدأوا بإسقاط كل من لا ينتمي إليهم من الوزارات والمناصب الرسمية، وتعيين أفراد من جماعتهم. هذا إضافة إلى العنف والنهب والخراب الذي شهدته البلاد"، تضيف غيداء.
في تلك الأثناء، غادر الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي صنعاء متجهاً جنوباً نحو عدن في الثاني والعشرين من يناير كانون الثاني ٢٠١٥.
ولم يطل الأمر حتى بدأت القوات الحوثية في التقدم نحو عدن في مارس آذار ٢٠١٥، ما دفع بالرئيس للمغادرة نحو السعودية.
"استيقظنا في منتصف الليل على أصوات صواريخ وقذائف غير واعين بما يحدث"، هكذا وصفت غيداء انطلاقة العملية العسكرية التي قادها التحالف العسكري بقيادة السعودية في اليمن.
إذ قامت المملكة العربية السعودية بإطلاق تحالف عسكري من تسع دول عربية في ٢٦ من مارس آذار ٢٠١٥، وأسمته بـ "التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن"، ليقود عملية جوية واسعة ضد أهداف متعددة للحوثيين في صنعاء ومحافظات أخرى، وأطلقت على العملية اسم "عاصفة الحزم".
"لم يكن هذا ما نطمح إليه من ثورتنا"، بخيبة أمل كبيرة تصف غيداء الأشهر الثمانية الأولى من انطلاقة عاصفة الحزم، والتي عاش خلالها اليمنيون فترة انقطاع متواصل للكهرباء في مدينة تفتقر لبنية تحتية تتحمل هجوماً عسكرياً بهذا الحجم، بحسب غيداء.
العملية العسكرية التي تقودها السعودية زادت الطين في اليمن بلة، إذ عمقت الصراع بين الجهات المتنازعة على الحكم، وتوسع النزاع ليمتد إلى خارج حدود اليمن، ففي يونيو حزيران 2015، أطلقت حركة الحوثي أول صاروخ باليستي باتجاه السعودية، لتعلن الحركة بذلك بدء مرحلة جديدة من الصراع.
في غضون ذلك، استعادت القوات الحكومية التابعة لعبد ربه منصور هادي السيطرة على مدينة عدن مدعومة بالعمليات العسكرية التي نفذها التحالف العربي الذي تقوده السعودية، في وقت لم تتوقف فيه محاولات المجتمع الدولي لجمع الأطراف اليمنية حول طاولة محادثات بهدف وقف القتال.
مرحلة الانقسام
وبعد أكثر من عام، عادت الأنظار مرة أخرى إلى اليمن لكن هذه المرة لإدانة حادثة وصفها المجتمع الدولي بالأكثر دموية منذ بدء النزاع في البلاد، حيث قصفت قوات التحالف مقر عزاء في صنعاء، في حادثة عرفت باسم "قصف الصالة الكبرى"، وراح ضحيتها المئات من بينهم مسؤولون وأطفال.
وتضيف غيداء إنه على الرغم من تأييد بعض اليمنيين للتحالف، "إلا أنه لم يحقق أهدافه، بل تسبب في دمار البنية التحتية، إذ قصف مستشفيات ومدارس وبيوت عزاء وأفراح، ما تسبب بمآسٍ إنسانية لليمنيين". وأدى ذلك لانقسام اليمن، إذ شكل الحوثيون حكومة في صنعاء عام ٢٠١٦، فيما سيطرت الحكومة المدعومة من السعودية على عدن في أقصى الجنوب، أما المناطق الجنوبية الأخرى فاستحوذ عليها المجلس الانتقالي الجنوبي.
اشتكت غيداء من صعوبة الوضع في تلك الفترة، الذي تفاقمت فيه الأزمات المعيشية وتعقدت. في وقت فرضت فيه قوات التحالف قيوداً على المجال الجوي اليمني ما أدى إلى إغلاق مطار صنعاء، غير أن العودة للوراء في اليمن كانت مستحيلة، خاصة بعد أن أعلنت جماعة الحوثي مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح أثناء معارك مع القوات الموالية له في صنعاء.
ومع استمرار الصراع في اليمن وارتفاع أعداد ضحاياه، بدأ شبح المجاعة يهدد المدنيين في اليمن ما دعا المجتمع الدولي إلى اتخاذ خطوات عاجلة وبدء محاولات جديدة لفض النزاع، ونجحت الجهود في ديسمبر كانون الأول ٢٠١٨ في جمع الأطراف في محادثات السويد.
وبحلول عام ٢٠١٩، بدأ مسار الصراع في اليمن باتخاذ منحنى جديد، إذ أعلنت الإمارات انسحاب قواتها من اليمن، في حين واصلت دعمها للقوات الجنوبية الانفصالية التي سيطرت على عدن.
في المقابل، حاولت الرياض رعاية محادثات للتهدئة بين الإمارات وبين القوات المدعومة من حكومة عبد ربه منصور هادي، ووقعت الأطراف على اتفاق لإعادة تفعيل مؤسسات الدولة وتنظيم القوات العسكرية تحت قيادة وزارة الدفاع، غير أن الاتفاق لم يفعل.
يمنيون في انتظار الموت
"أصبح اليمن ساحة للمواجهة بين أطراف متصارعة لا تهتم لصالح اليمن وإنما لصالح قوتها وسيطرتها"، هكذا ترى غيداء وضع بلادها.
وحتى مع تفشي فيروس كورونا عام 2020، فإن الأوضاع في اليمن لم تهدأ ولم تلتزم الأطراف بهدنة أقرتها الأمم المتحدة في محاولة لتفادي خطر مجاعة تهدد البلاد. واعتبرت غيداء ذلك سبباً إضافياً "كان ينتظره الشعب اليمني للموت".
في مطلع عام 2021، ومع انتقال الإدارة الأميركية للرئيس جو بايدن، أعلنت واشنطن وقف الدعم الأميركي للأسلحة في اليمن، تلاه مبادرة سعودية لحل الأزمة إلا أن حركة أنصار الله الحوثية رفضتها.
بعد سنوات من التعقيد، نجح أخيراً المبعوث الأممي الجديد آنذاك لليمن، هانس غروندنبيرغ، في أبريل نيسان 2022 في التوصل لاتفاق مع الأطراف المتنازعة على وقف إطلاق النار لمدة شهرين، تم تجديدها حتى أكتوبر تشرين الأول من العام نفسه قبل أن يتم الإعلان عن انتهائها بشكل رسمي وعودة الأطراف المتنازعة للقتال مؤخراً.
وبذلك، أصبحت الكلمة في عدن للمجلس الانتقالي الجنوبي، فيما تسيطر جماعة أنصار الله الحوثية على صنعاء، أما حكومة عبد ربه منصور هادي المدعومة من التحالف فقد أصبحت الطرف الأضعف في الصراع.
"مع الأسف، لم يعد الشعب اليمني قادراً على الحلم ونسي حقه في ذلك"، بهذه الكلمات تصف غيداء مشاعرها بعد مرور ١٢ عاماً على خروجهم للشارع أملاً في التغيير.
إرسال تعليق